فصل: (سورة آل عمران: الآيات 189- 191)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فقد كان الواحد من الفراعنة والقياصرة والأكاسرة يجرى في ضعفاء عهده بتحكمه ولعبه كل ما يريده ويهواه ويعتذر لو اعتذر أن ذلك من شؤون السلطنة ولصلاح المملكة وتحكيم أساس الدولة ويعتقد أن ذلك حق نبوغه وسيادته ويستدل عليه بسيفه كذلك إذا تعمقت في المرابطات السياسية الدائرة بين أقوياء الأمم وضعفائهم اليوم وجدت أن التاريخ وحوادثه كرت علينا ولن تزال تكر غير أنها ابدلت الشكل السابق الفردى بالشكل الحاضر الاجتماعي والروح هي الروح والهوى هو الهوى وأما الإسلام فطريقته بريئة من هذه الاهواء ودليله السيرة النبوية في فتوحاته وعهوده.
ومنها أن أقسام الاجتماعات على ما هو مشهود ومضبوط في تاريخ هذا النوع لا تخلو عن وجود تفاضل بين أفرادها مؤد إلى الفساد فإن اختلاف الطبقات بالثروة أو الجاه والمقام المؤدى بالآخرة إلى بروز الفساد في المجتمع من لوازمها لكن المجتمع الإسلامى مجتمع متشابه الاجزاء لا تقدم فيها للبعض على البعض ولا تفاضل ولا تفاخر ولا كرامة وإنما التفاوت الذي تستدعيه القريحة الإنسانية ولا تسكت عنه إنما هو في التقوى وأمره إلى الله سبحانه لا إلى الناس قال تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات- 13] وقال تعالى: {فاستبقوا الخيرات} [البقرة- 148] فالحاكم والمحكوم والأمير والمأمور والرئيس والمرؤوس والحر والعبد والرجل والمرأة والغنى والفقير والصغير والكبير في الإسلام في موقف سواء من حيث جريان القانون الدينى في حقهم ومن حيث انتفاء فواصل الطبقات بينهم في الشؤون الاجتماعية على ما تدل عليه السيرة النبوية على سائرها السلام والتحية.
ومنها أن القوة المجرية في الإسلام ليست هي طائفة متميزة في المجتمع بل تعم جميع أفراد المجتمع فعلى كل فرد أن يدعو إلى الخير ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وهناك فروق أخر لا يخفى على الباحث المتتبع. اهـ.

.من فوائد الزمخشري في الآيات:

قال رحمه الله:

.[سورة آل عمران: آية 186]

{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيرًا}.
والبلاء في الأنفس: القتل والأسر والجراح وما يرد عليها من أنواع المخاوف والمصائب.
وفي الأموال: الإنفاق في سبيل الخير وما يقع فيها من الآفات. وما يسمعون من أهل الكتاب المطاعن في الدين الحنيف، وصدّ من أراد الإيمان، وتخطئة من آمن، وما كان من كعب بن الأشرف من هجائه لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وتحريض المشركين، ومن فنحاص، ومن بنى قريظة والنضير فَإِنَّ ذلِكَ فإن الصبر والتقوى مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ من معزومات الأمور، أي مما يجب العزم عليه من الأمور أو مما عزم اللَّه أن يكون، يعنى أنّ ذلك عزمة من عزمات اللَّه لابد لكم أن تصبروا وتتقوا.

.[سورة آل عمران: آية 187]

{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187)}
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ واذكر وقت أخذ اللَّه ميثاق أهل الكتاب لَتُبَيِّنُنَّهُ الضمير للكتاب.
أكد عليهم إيجاب بيان الكتاب واجتناب كتمانه كما يؤكد على الرجل إذا عزم عليه وقيل له.
آللَّه لتفعلنّ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ فنبذوا الميثاق وتأكيده عليهم، يعنى لم يراعوه ولم يلتفتوا إليه. والنبذ وراء الظهر مثل في الطرح وترك الاعتداد. ونقيضه جعله نصب عينيه وألقاه بين عينيه، وكفى به دليلا على أنه مأخوذ على العلماء أن يبينوا أحق للناس وما علموه وأن لا يكتموا منه شيئا لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة، وتطيب لنفوسهم. واستجلاب لمسارّهم، أو لجرّ منفعة وحطام دنيا، أو لتقية: مما لا دليل عليه ولا أمارة أو لبخل بالعلم، وغبرة أن ينسب إليه غيرهم.
وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «من كتم علما عن أهله ألحم بلجام من نار» وعن طاوس أنه قال لوهب: إني أرى اللَّه سوف يعذبك بهذه الكتب. وقال: واللَّه لو كنت نبيا فكتمت العلم كما تكتمه لرأيت أنّ اللَّه سيعذبك، وعن محمد بن كعب: لا يحل لأحد من العلماء أن يسكت على علمه ولا يحل لجاهل أن يسكت على جهله حتى يسأل. وعن على رضى اللَّه عنه. ما أخذ اللَّه على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا وقرئ: ليبيننه. ولا يكتمونه، بالياء، لأنهم غيب. وبالتاء، على حكاية مخاطبتهم، كقوله: {وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إسرائيل فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ}.

.[سورة آل عمران: آية 188]

{لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188)}
{لا تَحْسَبَنَّ} خطاب لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. وأحد المفعولين {الَّذِينَ يَفْرَحُونَ} والثاني {بِمَفازَةٍ} وقوله فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ تأكيد تقديره: لا تحسبنهم، فلا تحسبنهم فائزين. وقرئ: {لا تحسبن}. فلا تحسبنهم، بضم الباء على خطاب المؤمنين. ولا يحسبن. فلا يحسبنهم، بالياء وفتح الباء فيهما، على أنّ الفعل للرسول. وقرأ أبو عمرو بالياء وفتح الباء في الأوّل وضمها في الثاني، على أن الفعل للذين يفرحون، والمفعول الأوّل محذوف على: لا يحسبنهم الذين يفرحون بمفازة، بمعنى: لا يحسبن أنفسهم الذين يفرحون فائزين، وفلا يحسبنهم، تأكيد. ومعنى بِما أُوتُوا بما فعلوا. وأتى وجاء، يستعملان بمعنى فعل. قال اللَّه تعالى: {إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا}، {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا}. ويدل عليه قراءة أبىّ: يفرحون بما فعلوا. وقرئ: آتوا، بمعنى أعطوا. وعن على رضى اللَّه عنه: بما أوتوا. ومعنى بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ بمنجاة منه. روى أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم سأل اليهود عن شيء مما في التوراة فكتموا الحق وأخبروه بخلافه، وأروه أنهم قد صدقوه، واستحمدوا إليه، وفرحوا بما فعلوا، فأطلع اللَّه رسوله على ذلك وسلاه بما أنزل من وعيدهم: أى: لا تحسبن اليهود الذين يفرحون بما فعلوا- من تدليسهم عليك ويحبون أن تحمدهم بما لم يفعلوا من إخبارك بالصدق عما سألتهم عنه- ناجين من العذاب. ومعنى {يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا} بما أوتوه من علم التوراة. وقيل يفرحون بما فعلوا من كتمان نعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من اتباع دين إبراهيم حيث ادعوا أن إبراهيم كان على اليهودية وأنهم على دينه. وقيل: هم قوم تخلفوا عن الغزو مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فلما قفل اعتذروا إليه بأنهم رأوا المصلحة في التخلف، واستحمدوا إليه بترك الخروج. وقيل: هم المنافقون يفرحون بما أتوا من إظهار الإيمان للمسلمين ومنافقتهم وتوصلهم بذلك إلى أغراضهم، ويستحمدون إليهم بالإيمان الذي لم يفعلوه على الحقيقة لإبطانهم الكفر. ويجوز أن يكون شاملا لكل من يأتى بحسنة فيفرح بها فرح إعجاب، ويحب أن يحمده الناس ويثنوا عليه بالديانة والزهد وبما ليس فيه.

.[سورة آل عمران: الآيات 189- 191]

{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الألباب (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيامًا وَقُعُودًا وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191)}
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فهو يملك أمرهم. وهو على كل شيء قدير، فهو يقدر على عقابهم لَآياتٍ لأدلة واضحة على الصانع وعظيم قدرته وباهر حكمته لِأُولِي الألباب للذين يفتحون بصائرهم للنظر والاستدلال والاعتبار، ولا ينظرون إليها نظر البهائم غافلين عما فيها من عجائب الفطر. وفي النصائح الصغار: املأ عينيك من زينة هذه الكواكب، وأجلهما في جملة هذه العجائب، متفكرا في قدرة مقدّرها، متدبرا حكمة مدبرها، قبل أن يسافر بك القدر، ويحال بينك وبين النظر: وعن ابن عمر رضى اللَّه عنهما: قلت لعائشة رضى اللَّه عنها: أخبرينى بأعجب ما رأيت من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فبكت وأطالت، ثم قالت: كل أمره عجب، أتانى في ليلتي فدخل في لحافي حتى ألصق جلده بجلدي، ثم قال: يا عائشة، هل لك أن تأذنى لي الليلة في عبادة ربى؟ فقلت: يا رسول اللَّه، إني لأحب قربك وأحب هواك، قد أذنت لك. فقام إلى قربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر من صب الماء، ثم قام يصلى، فقرأ من القرآن فجعل يبكى حتى بلغ الدموع حقويه، ثم جلس فحمد اللَّه وأثنى عليه وجعل يبكى، ثم رفع يديه فجعل يبكى حتى رأيت دموعه قد بلت الأرض، فأتاه بلال يؤذنه بصلاة الغداة فرآه يبكى فقال له: يا رسول اللَّه، أتبكي وقد غفر اللَّه لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: يا بلال أفلا أكون عبدًا شكورا. ثم قال: ومالى لا أبكى وقد أنزل اللَّه علىّ في هذه الليلة {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} ثم قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها. وروى: «ويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأمّلها» وعن على رضى اللَّه عنه: أنّ النبي صلى اللَّه عليه وسلم كان إذا قام من الليل يتسوّك ثم ينظر إلى السماء ثم يقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ}. وحكى أنّ الرجل من بنى إسرائيل كان إذا عبد اللَّه ثلاثين سنة أظلته سحابة، فعبدها فتى من فتيانهم فلم تظله، فقالت له أمّه: لعلّ فرطة فرطت منك في مدّتك؟ فقال: ما أذكر. قالت: لعلك نظرت مرّة إلى السماء ولم تعتبر؟ قال: لعلّ. قالت:
فما أُتيت إلا من ذاك الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ ذكرًا دائبًا على أي حال كانوا، من قيام وقعود واضطجاع لا يخلون بالذكر في أغلب أحوالهم. وعن ابن عمر وعروة بن الزبير وجماعة أنهم خرجوا يوم العيد إلى المصلى فجعلوا يذكرون اللَّه، فقال بعضهم: أما قال اللَّه تعالى: {يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيامًا وَقُعُودًا} فقاموا يذكرون اللَّه على أقدامهم. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «من أحبّ أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر اللَّه» وقيل: معناه يصلون في هذه الأحوال على حسب استطاعتهم. قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لعمران بن الحصين «صل قائما فإن لم تستطع فقاعدًا فإن لم تستطع فعلى جنب، تومئ إيماء» وهذه حجة للشافعي رحمه اللَّه في إضجاع المريض على جنبه كما في اللحد. وعند أبى حنيفة رحمه اللَّه أنه يستلقى حتى إذا وجد خفة قعد.
ومحل عَلى جُنُوبِهِمْ نصب على الحال عطفًا على ما قبله، كأنه قيل: قياما وقعودًا ومضطجعين وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وما يدل عليه اختراع هذه الأجرام العظام وإبداع صنعتها وما دبر فيها بما تكل الأفهام عن إدراك بعض عجائبه على عظم شأن الصانع وكبرياء سلطانه. وعن سفيان الثوري أنه صلى خلف المقام ركعتين ثم رفع رأسه إلى السماء، فلما رأى الكواكب غشى عليه، وكان يبول الدم من طول حزنه وفكرته. وعن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء فقال: أشهد أنّ لك ربًا وخالقًا، اللهمّ اغفر لي، فنظر اللَّه إليه فغفر له» وقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم «لا عبادة كالتفكر» وقيل: الفكرة تذهب الغفلة وتحدث للقلب الخشية كما يحدث الماء للزرع النبات، وما جليت القلوب بمثل الأحزان ولا استنارت بمثل الفكرة. وروى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم «لا تفضلوني على يونس بن متى فإنه كان يرفع له في كل يوم مثل عمل أهل الأرض» قالوا:
وإنما كان ذلك التفكر في أمر اللَّه الذي هو عمل القلب، لأن أحدًا لا يقدر أن يعمل بجوارحه في اليوم مثل عمل أهل الأرض ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا على إرادة القول. أي يقولون ذلك وهو في محل الحال، بمعنى يتفكرون قائلين. والمعنى: ما خلقته خلقًا باطلا بغير حكمة، بل خلقته لداعي حكمة عظيمة، وهو أن تجعلها مساكن للمكلفين وأدلة لهم على معرفتك ووجوب طاعتك واجتناب معصيتك ولذلك وصل به قوله فَقِنا عَذابَ النَّارِ لأنه جزاء من عصى ولم يطع. فإن قلت:
هذا إشارة إلى ما ذا؟ قلت: إلى الخلق على أن المراد به المخلوق، كأنه قيل: ويتفكرون في مخلوق السموات والأرض، أي فيما خلق منها. ويجوز أن يكون إشارة إلى السموات والأرض لأنها في معنى المخلوق. كأنه قيل: ما خلقت هذا المخلوق العجيب باطلا. وفي هذا ضرب من التعظيم كقوله: {إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} ويجوز أن يكون باطلا حالا من هذا. وسبحانك:
اعتراض للتنزيه من العبث، وأن يخلق شيئًا بغير حكمة.

.[سورة آل عمران: الآيات 192- 194]

{رَبَّنا أنك مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِيًا يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ أنك لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194)}
فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ فقد أبلغت في إخزائه. وهو نظير قوله فقد فاز. ونحوه في كلامهم: من أدرك مرعى الصمان فقد أدرك، ومن سبق فلانا فقد سبق وَما لِلظَّالِمِينَ اللام إشارة إلى من يدخل النار وإعلام بأنّ من يدخل النار فلا ناصر له بشفاعة ولا غيرها، تقول:
سمعت رجلا يقول كذا، وسمعت زيدًا يتكلم. فتوقع الفعل على الرجل وتحذف المسموع، لأنك وصفته بما يسمع، أو جعلته حالا عنه فأغناك عن ذكره، ولولا الوصف أو الحال لم يكن منه بد، وأن يقال سمعت كلام فلان أو قوله. فإن قلت: فأىّ فائدة في الجمع بين المنادى وينادى؟ قلت: ذكر النداء مطلقًا ثم مقيدًا بالإيمان تفخيما لشأن المنادى لأنه لا منادى أعظم من مناد ينادى للإيمان. ونحوه قولك: مررت بهاد يهدى للإسلام. وذلك أنّ المنادى إذا أطلق ذهب الوهم إلى مناد للحرب، أو لإطفاء النائرة، أو لإغاثة المكروب، أو لكفاية بعض النوازل، أو لبعض المنافع، وكذلك الهادي قد يطلق على من يهدى للطريق ويهدى لسداد الرأى وغير ذلك فإذا قلت: ينادى للإيمان، ويهدى للإسلام، فقد رفعت من شأن المنادى والهادي وفخمته. ويقال: دعاه لكذا وإلى كذا، وندبه له وإليه، وناداه له وإليه. ونحوه: هداه للطريق وإليه، وذلك أن معنى انتهاء الغاية ومعنى الاختصاص واقعان جميعًا، والمنادى هو الرسول {أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ}، {ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ}. وعن محمد بن كعب: القرآن. أَنْ آمِنُوا أي آمنوا، أو بأن آمنوا ذُنُوبَنا كبائرنا سَيِّئاتِنا صغائرنا مَعَ الْأَبْرارِ مخصوصين بصحبتهم، معدودين في جملتهم. والأبرار: جمع برّ أو بارّ، كرب وأرباب، وصاحب وأصحاب عَلى رُسُلِكَ على هذه صلة للوعد، كما في قولك: وعد اللَّه الجنة على الطاعة. والمعنى: ما وعدتنا على تصديق رسلك. ألا تراه كيف أتبع ذكر المنادى للإيمان وهو الرسول وقوله آمنا وهو التصديق ويجوز أن يكون متعلقًا بمحذوف، أي ما وعدتنا منزلا على رسلك، أو محمولا على رسلك، لأن الرسل محملون ذلك {فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ} وقيل: على ألسنة رسلك. والموعود هو الثواب. وقيل:
النصرة على الأعداء. فإن قلت: كيف دعوا اللَّه بإنجاز ما وعد واللَّه لا يخلف الميعاد؟ قلت: معناه طلب التوفيق فيما يحفظ عليهم أسباب إنجاز الميعاد أو هو باب من اللجأ إلى اللَّه والخضوع له، كما كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يستغفرون مع علمهم أنهم مغفور لهم، يقصدون بذلك التذلل لربهم والتضرع إليه، واللجأ الذي هو سيما العبودية.

.[سورة آل عمران: آية 195]

{فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَوابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195)}
يقال استجاب له واستجابه:
فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ